Monday, December 08, 2008

عشرة جنيهات .. من مجموعة عفاريت الراديو




عشرة جنيهات

قصة 




أمسكت بيدها حتى تجاوزنا زحام الطلبة ووقفنا بجوار باب الكلية ، قلت لها كلامًا كثيرًا لا أذكره ، ضربت الكثير من الأمثلة وبالغت في بعض المشاعر وقطعت وعودًا صبيانية ، ولاحظت أن شابًا جالسًا على الرصيف ينظر لي مبتسمًا وهو يهز برأسه بمعنى أنني – بالتأكيد - أردد الاسطوانة المعتادة ، ولم تكن لديّ اسطوانات ولا تجارب ، وكان الكلام الذي يبدو معادًا يخرج مني لأول مرة ، لكنني أيضًا لم يكن لديّ نية الاستمرار ، واليوم انتهت الإمتحانات ولابد لي أن أعود إلى مدينتي البعيدة ، وكانت واقفة أمامي بجسدها الصغير ووجهها المندهش ، تهز برأسها فتبدو كأنها تصدقني ، ودّعتها ثم التفتّ إلى حيث الشاب المبتسم فلم أجد أحدًا ، وشعرت بخوف طفيف مالبث أن أطاح به الحر والزحام .
في ميدان المحطة بدأت الشمس تميل للمغيب ، حاولت أن ألحق بمكان في أي سيارة أجرة متجهة إلى مدينتنا الصغيرة ، لم أجد واحدة ووجدت خلقًا كثيرين وطلبة جامعيين ينتظرون مثلي ، قدّرت أن الانتظار قد يطول ، وعضّني الجوع ، عددت جنيهاتي القليلة فوجدتها تسمح ببعض السندوتشات ، وما لبثت أن لمحت عربة لبيع الكبدة في الطرف البعيد من الميدان .

العربة تعامدت على فتحة ضيقة جدا بين بنايتين متلاصقتين امتدت بينهما لافتات تهنيء الشعب بنجاة الرئيس من محاولة اغتيال خارج البلاد ، أسفل اللافتات وضع البائع داخل الفتحة عدة كراس صغيرة ، سحب كرسيًا فجلست بالداخل وحيدًا وإذا بي انقطعت تمامًا عن الميدان ، طلبت عددًا من الأرغفة ، فبدأ يقلب الكبدة والسجق ليتصاعد منهما البخار ، ووبالسكين الكبير يقطع الأرغفة أنصافًا متساوية ويناولني ، " مسافر ؟ " ، سألني فأجبت بالإيجاب ، عرف مني اسم مدينتي ونوع دراستي والسنة التي أدرس بها ، يتحدث ويتحدث بمخارج ألفاظ مشوهة أفهمها بصعوبة ، بين لحظة وأخرى يمسّد شاربه بالسكّين ويعود لتقطيع الأرغفة ، ولا يتوقف عن تقديم مزيد من السندويتشات لي ، أقنعت نفسي أنني كنت أكثر جوعًا مما ظننت فأكلت عددًا أكبر مما طلبت ، انتهيت ونهضت لأدفع حسابي وأمشي ، " عشرة جنيهات " قال .
 " كم ؟ " سألت مصدومًا ، وكنت قدرت مالا يزيد عن نصف ذلك ، لم تتغير نظرة البائع ولاحظت لأول مرة ندوب وجهه ، " عشرة جنيهات ؟" سألت مستنكرًا والتفّت أبحث عن حكم ولم يكن بالمكان غيرنا ، نادى البائع فجاء شاب آخر يشبهه ويؤيد موقفه " شوف كيلو الكبدة بكام يا كابتن " ، قالها الشاب الآخر الذي سدّ المدخل مسددًا لي نفس نظرة البائع الحجرية .

في الميدان كان الليل قد هبط ، وكانت أكثر من سيارة تنادي الركاب ، أحد المنادين دفعني دفعًا داخل سيارة ولكنني نزلت منها ، وقدرت أن ما تبقى معي لن يكفي سوى لتذكرة الأوتوبيس الذي ستقوم رحلته الأخيرة بعد حوالي ساعتين .

محطة الأوتوبيس ازدحمت برجال في جلابيب زرقاء ونسوة ملفحات بالسواد ، جلست على الرصيف وسط روائح المش والبيض والعرق ، ورأيت من بعيد شخصًا يشبه الشاب الذي كان يبتسم لكلامي عند الكلية ، فأشحت بوجهي وانحنيت متظاهرًا بربط حذائي 

تمت

..


محمد خير

من مجموعة ( عفاريت الراديو ) التي صدرت حديثًا عن دار ملامح

14 comments:

fawest said...

ألف مبروك

mhmd said...

شكرا يا طه

صباحك فل

We2am said...

إييييه دهههه؟؟؟
كاتب قصص قصيرة بجد فعلاً؟؟؟
الواحد كل شوية يكتشف قد إيه هو جاهل
:)
مبروك نزول المجموعة يا محمد،بجد دي قصص قصيرة فعلاً!!!
أنا مندهشة جداً!!!
:)))

عفريت العلبه said...

يا محمد يا حبيب زملاتك .. جميله قوي القصه دي كمان .. لازم أكلم الشرقاوي يجيبلنا نسخ فورا .. (حاكم جاليري الدكان اللي أنا ماسك النشاط الادبي فيه بيعرض شغل ملامح) .. تسلم إيدك ياواد .. لغتك جميلة وسليمة ( ودي بقت حاجه نادره زي ماانت هارش) والمشهد اللي انت لاقطه رغم ألفته إنما قادر يقدم خبره جديده .. ودي بقى روح الفن الحقيقي .. هذا والله أعلم
ملحوظه جانبيه : حاجه غريبه !! تصميم مدونتك نفس التصميم اللي اخترته لمدونتي المسكينه : "عفريت العلبه " .. حتى شوف

mhmd said...

وئام

شكرا ليكي بشدة ، وحاولي تحتفظي بدهشتك دايما

صباحك ورد

mhmd said...

عبده

إيه المفاجآت دي ؟ جاليري الدكان ، ومدونة كمان
أضفتها على المفضّلة عندي عشان أقراها على مهل ، بس من النظرة الأولى شكلها يفتح النفس،
ومش غريب نختار نفس التصميم ما هي الحاجات عند بعضيها
تحياتي المؤكدة :) وأشوفك قريبا

nona said...

القصة رائعة فيها تفاصيل صغيرة جدا بس تجبر الواحد انه يستغرق فيها
بصراحة انا بقيت متشوقة جدا انى اشوف المجموعة ، مبروك ليا فى المقام الاول لانى متوقعة انى هستمتع جدا بالمجموعة
على كلا مبروك ليك انت كمان

mhmd said...

شكرا جزيلا يا نونا

وعقبال ما تشوفي المجموعة قريّب
:)

حبيت مدونتك على فكرة

صباح الفل

alnadeem said...

القصه حلوه جداعلي فكره
مبروك

mhmd said...

أبو الندائم

يا مرحبا يا مرحبا

شكرا صديقي وصباحك رايق

معتز said...

جميل. أنا قرأت كمان قصة أخرى ليك . وكانت عن رحلة قطار، أقلك حاجة مهمة، انت فنان، لأن الفنان الحقيقي هو اللي يقدر يحول الأحداث إلى صور يشوفها القارئ قدامه، إضافة إلى أن لغتك سلسة ومريحة وبنفس الوقت رفيعة لغويا.
أتمنى لك التوفيق من كل قلبي.
زميلك "قريّب" معتز عبد العزيز..

mhmd said...

أهلا يا معتز

القصة اللي تقصدها عن رحلة القطار اسمها ( ورقة بيضاء مطوية ) وهي منشورة أيضًا في مجموعة عفاريت الراديو
،

شكرا لكلامك الجميل ، ومعرفش قصدك إيه بالزمالة؟ يعني صحفيا وللا قصصيا؟
عموما أهلا بيك في الحالتين
:)

تحياتي

Anonymous said...

اكتر من هايلة و الله يا خير
عااااش

س.تركي

mhmd said...

الاستاذ ( س. تركي ) شخصيًا ، انت مكسّل تكمل اسمك يا "سيّد " و لا ايه ؟
: )


شكرا جزيلا لمرورك واهتمامك
صباحك مضيء